وعل في الغابة

Riyadh

وعل في الغابة

منشورات وزارة الثقافة و الإرشاد القومي – دمشق ١٩٨٣

إلى هيفاء أحمد

قصائد

“أنت في وحدتك

بلد مزدحم”

روفائيل ألبرتي

غرفة الشاعر

يفتح بابَ الكلماتِ و يدخلُ بخطىً خائفةٍ

في أنحاءِ الغرفةِ

بعض قصائد ذابلة

كلمات تتمدد فوق الكرسيّ

و أخرى تتعلّق بالمشجب

سنبلة تهرب من بين أصابعه

و طيور تقتحم الشفتين

يرى عشبًا ينبت في المكتبةِ المهملةِ

و نبعًا ينبثق من الحائط

بعد قليل سوف يداهمه الليل بأقمار و كوابيس

تداهمه أشجار الغابة

و رمال الشاطئ

و حصى الأنهار

و آبار فارغة

يملؤها بحروف سوداء

ماذا يأخذ من جثث الأيام

و ماذا يترك

غير قصائد ذابلة

و غبار الكلمات؟

و بعد قليل

سوف يداهمه الشرطيّ

ليسأله عن جمل غامضةٍ

و يحذره من استعمال “القُبلة” و “القنبلة”

و يمضي..

هو ذا الشاعر

يفتح نافذة القلبْ

يغلق عينيه

و يحلم بقصيدة حبْ

غرفة المحارب

يتوسد خندقه الرمليّ وحيدًا

و يداه تحيطان برشاشٍ مملوء بالموت

سيأتي الزوّار مساءً

زائرة تحمل للأرض قنابل ضوئية

أُخرى ستمشط بالنار سهولاً تمتدُّ

سيأتي الأعداء مساءً

كقطيعِ ذئابٍ كاسرةٍ

يلتهمون بيوت الطين

و أشجار التفاح

و كرّاسات الأطفال

و رأسَ الجنديّ

الجندي يرتب غرفته الرملية

الماء هنا

و الطلقات هناك

و ها هي صورة نرجسة تبتسم لجندي

يحملُ رشاشًا و خضارًا

الزوار يجيئون

فأهلاً

يطلق طلقته الأولى

سيظل يقاتل حتى آخر حبّة رمل من هذا الخندق

غرفة السائح

العالم غرفة هذا السائح

إذ يمضي في ردهاتِ العالمِ

يجمع أحجارًا من مدنٍ بائدة

و نقودًا لشعوب أهلكها الزلزالُ

و يجمع صورًا لجوامع

و متاحف

و تماثيل مرعبة

يمشي في أرصفة الدنيا

فيرى سفاحًا فيصوّره

و بائعَ ليمونٍ فيصوّره

و راقصة يسألها:

ماذا تعني

“Merci”

بالعربيةِ

و لماذا لا يزرع هذا الشعب “الأناناس”؟

السائحُ يفهمُ أو لا يفهمُ

يعلمُ أو لا يعلمُ

سيظل يسير و ينظر و يصوّر

فالعالم غرفة هذا السائح

و النافذة كاميرا

غرفة مهدي محمد علي

هي ذي غرفته تنهض من بين الأنقاض

مسيّجةً بدمٍ و عبيرٍ

ندخلها في الليل كقديسين جميلين

و يدخلها الشيوعيون، و عباد الشمس،

و أخبار المدن المشتعلة

هي ذي غرفته

أبعد من وطنٍ

أقرب من رمشِ العين إلى العين

و يا مهدي

أرنا كفيك

ألم تنمُ الأعشاب عليك

ألم تورق أغصان القلب

و ماذا يحدث لنبات البصرة

و تراب البصرة

….

….

….

هي ذي غرفته

أجمل من قبر

و أعلى من شجرة نخل

و صاحبها

طير في قفصٍ

يفرك عينيه، يبعثر أوراقًا و رسائل،

يكتشف امرأة في فنجان القهوة

ذات مساء

سوف تدق الباب نباتات الزينةِ

تأتي الأزهار، و أشجار الصفصاف،

و أعشاب الغابة، و ثمار اليقطين

و تحتل الغرفة

الولد النائم

قبل أن يذهبَ للحرب مضى نحو السرير

أغلق عينيه و نام..

رأى فيما يرى الأولاد

سهلاً فسيحًا تركض الغزلان فيه

سربًا من عصافير

و أشجارًا من الدراق

أزهارًا لها هيئة أقمارٍ

رأى نهارًا واسعًا جدًا

و من أقصى النهار جاء رجل يسعى

ألقى على الطفل قميصًا من دمٍ

فاختفى السهل و ماتت الغزلان

و الأشجار

اختفى النهار..

قال الولد الجميل: لا بأس

أغمض عينيه بعينيه

و نام

رأى عشرين ملاكًا يهبطون قربه

سألهم: هل تأكلون البرتقال

هل نستطيع أن نلعب لعبة الهرّة و الفأر

أختبئ الآن فوق سريري

جديني أيتها الهرّة/الملاك..

….

و من أقصى السماء

جاءت القنبلة فوق سرير الولد الجميل

طار الملاك

و ماءت الهرة حينما رأت إصبع طفل في التراب

قال الولد الجميل:

لا بأس، لا بأس

عاد إلى السرير متعبًا

أغمض عينيه بعينيه

و نام..

رأى فيما يرى الحالم

أسماكًا على الجدران

ذئبًا يسبح في البركة

تمساحًا يعود للملهى

و امرأة تنتظر الربّ أمام قصر العدل

صاح الولد الجميل:

لا أريد أن أرى شيئًا

أريد أمي و زجاجة الحليب و القماط

قال الولد الجميل شيئًا

ليس حسنًا جدًا

و ليس سيئًا جدًا:

“عاش البط

عاش النهر

عاشت الهرّة

عاشت الأشجار

عاشت أختي و أخي

و لتسقط الدبابة..”

أغلق عينيه بعينيه

و نام أبدًا

رغبات

“عندما كان العصفور

يصفّر في العشب

و الريح تنهش جدراننا العظيمة

كنا كأنما في عيد

و كان كل شيء يتحقق”

غيليفيك

كنجمة في السماء

كوعل في الغابة

أمامي الكثير لأعطيه

و خلفي الكثير للمقابر

أمامي النهر و رائحة الصباح و الأغاني

البشر الرائعون و السفر و العدالة

و خلفي الكثير الكثير

من الكهنة و التماثيل و المذابح

و ها أنذا أمشي و أمشي

بين هزائمي الصغيرة و انتصاراتي الكبرى

و ها أنذا أمشي و أمشي

متألقًا كنجمة في السماء

و حُرًّا كوعل في الغابة

لي وطن أحبه و أصدقاء طيّبون

بنطال و حذاء و كتب و رغبات

و وقت قليل للرقص و الجنون و القنبلة

لقد بدأت أتعلم كيف أبتسم و أقول وداعًا

و بدأت أتعلم كيف أتألم

بعيدًا عن الضجيج و العواصف

أما الكلمة الجميلة، الجميلة

التي تشبه طائرًا أبيض

و التي تشبه شجرة في صحراء

فلقد اكتشفتها متأخرًا قليلاً

مثلما تكتشف السفينة اتجاهها

و مثلما يكتشف الطفل أصابعه و عينيه

لذلك أمشي و أمشي و أمشي

فأمامي الكثير لأعطيه

و خلفي الكثير للمقابر

و لذلك أمشي و أمشي و أمشي

و لا أنتظر أن ينتهي طريقي

هذه صخرة و هاتان عينان

هذا قمر و تلك أوزة

و ثمة أشياء كثيرة لم أكن أراها:

أيدي الأمهات

أكياس الطحين

و طلاب المدارس

إنّني أفتح عيني كنبع صغير

و أتحرك برشاقة الرعاة

فلقد بدأت أعلم

-و ربما متأخرًا قليلاً-

أن آلاف الحروب و ملايين الجرائم

لم تستطع منع القطة من المواء عندما تجوع

و الوردة من أن تتفتح

و المطر من أن ينهمر بغزارة…

لذلك أمشي و أمشي و أمشي

متألقًا كنجمة في السماء

و حُرًّا كوعل في الغابة

و عندما أصل إلى البيت

وحيدًا أو عاشقًا

مرحًا أو حزينًا

أعترف لنفسي بأخطائي القليلة

و أنتظر:

عشب الطريق

هدير القطارات

و عمال المصانع

و لون السماء في الصباح الباكر

الباكر

الباكر

رغبات

أريد أن أذهب إلى القرية

لأقطف القطن و أشمّ الهواء

أريد أن أعود إلى المدينة

في شاحنة مليئة بالفلاحين و الخراف

أريد أن أغتسل في النهر

تحت ضوء القمر

أريد أن أرى قمرًا

في شارع أو كتاب أو متحف

أريد أن أبني غرفة

تتسع لألف صديق

أريد أن أكون صديقًا

للدوري و الهواء و الحجر

أريد أن أضع بحرًا

في الزنزانة

أريد أن أسرق الزنازين

و ألقيها في البحر

أريد أن أكون ساحرًا

فأضع سكينًا في القبعة

أريد أن أمدّ يدي إلى القبعة

و أخرج منها أغنية بيضاء

أريد أن أمتلك مسدسًا

لأطلق النار على الذئاب

أريد أن أكون ذئبًا

لأفترس مَنْ يطلقون النار

أريد أن أختبئ في زهرة

خوفًا من القاتل

أريد أن يموت القاتل

حينما يرى الأزهار

أريد أن أفتح نافذة

في كل جدار

أريد أن أضع جدارًا

في وجه من يغلقون النوافذ

أريد أن أكون زلزالاً

لأهزّ القلوب الكسولة

أريد أن أدس في كل قلب

زلزالاً من الحكمة

أريد أن أخطف غيمة

و أخبئها في سريري

أريد أن يخطف اللصوص سريري

و يخبئونه في غيمة

أريد أن تكون الكلمة

شجرة أو رغيفًا أو قبلة

أريد لمن لا يحب الشجر

و الرغيف

و القبلة

أن يمتنع عن الكلام

مفارقات

“أعدّ الأيام على أصابعي

و عليها أعدّ أيضًا

أصحابي و أصدقائي

و في يوم ما

لن أعدّ على أصابعي

سوى أصابعي”

بول فانسانسيني

الذئب

الذئب الذي افترسني

تركني وحيدًا في الغابة

مَن يغطي جثتي بالأعشاب

بأوراق الأشجار اليابسة

بقليل من تراب؟

مَن يقرأ الفاتحة على روحي

مَن يغمض عيني الهلعتين

مَن يضع على صدري

صليبًا من أزهار؟

الذئب الذي افترسني

صار أنا

أخذ وجهي الشاحب

و شفتيّ المرتجفتين

و قلبي الطيّب

و ظل محتفظًا بأنيابه

أنا الذئب

ذو اليد البيضاء

أدور في المدينة و أعوي

أنا الذي قتل الصياد في الغابة

أنا الصياد

احذروا حبي

و احذروا أنيابي

مقاطع

من أكاذيب الكلام

من أكاذيب الروائح

من أكاذيب الأصوات

من أكاذيب العالم

الكذبة الوحيدة التي تستحق التصديق

هي الحب

في حصار الماضي

في حصار الحاضر

في حصار المستقبل

لا منفذ للحياة

سوى الحياة

الكلمة الجميلة

الكلمة اليائسة

الكلمة الحزينة

الكلمة المرحة

الكلمة العاشقة

الكلمة البسيطة

الكلمة الحية

كلها تنتفض في قاع صمتي

روتين

القهوة مع الحليب في الصباح

قبلة الزوجة السريعة

الطريق إلى العمل

الطريق إلى البيت

الطريق إلى السرير

و من ثم..

القهوة مع الحليب في الصباح

إنه حيّ تمامًا

المسه و لا تخفْ

فالموتى لا يخيفون

يهوي

مثلما يهوي ينزل من فضاء بعيد

نحو فضاء بعيد

هكذا تهوي روحه

هلعة، حزينة، ساطعة

نحو حياة مفعمة بأشياء يحبها

حياة تضيء و لو قليلاً

عتمة نهاره الحالك السواد

خراب

كان عليه أن ينظر إلى المرآة

ليرى عشرات الثقوب و الأثلام

تملأ سماء وجهه

وجهه الذي يشبه

قرية اجتاحها الطوفان

أو، على الأقل

لوحة باهتة الألوان

من القرن الثامن عشر

كان عليه أن ينظر مرة ثانية

و بعمق شديد

ليرى عينيه الضاحكتين الودودتين

تسخران من كل هذا الخراب

حلم

دائمًا كان يحلم

بتفاحة الحب الناضجة

ليحتويها بين أصابعه العشرة

كان ذلك حلمًا و حسب

كالوصول إلى القمر

سنة 1920

و كما في الأحلام

لم يعد الحلم حلمًا

فها هو يقضم تفاحة الحب

و ها هو سكّرها يسيل على شفتيه

مرة استفاق

فوجد أنه يقضم قلبه

تغيير

يرمي ثيابه في البئر

يرمي كتبه و خاتم الزواج

يرمي ماضيه المريض

و حاضره الخائف

يرمي أغانيه القديمة

و أصدقاءه المنافقين

يرمي كل ما تطاله يداه

من أوراق و مذكرات

من أفكار و دمى

يرمي بئر حياته في البئر

يرمي دماغه أخيرًا

و يستدير

نقيًا و أبيض و سهلاً

الآن فقط

يستطيع أن يقول: أحبك

العاشق

اعطِ القناص رصاصًا

و انتظر بضع دقائق

فسيملأ الشوارع بالجثث

اعطِ النجار خشبًا

و انتظر بضعة أيام

فسيملأ البئر بالنوافذ

اعطِ الحداد حديدًا

و انتظر بضعة أشهر

فسيملأ البراري برجال يشهرون السيوف

اعطِ البستاني بذارًا

و انتظر بضع سنوات

فسيملأ الصحارى بالأشجار

أما العاشق

أما العاشق

فلا تعطه شيئًا

ففي قلبه ما يكفي الدنيا

من السيوف و النوافذ

من الأشجار و الجثث

الراية

انظروا إليه

انظروا إليه فقط

لقد تفسخ جسده

منذ زمن بعيد

و ما زال يحمل راية الحرية

حياتنا الجميلة

الحياة حلوة

يقول العصفور

و يرتمي ميتًا قرب حذاء الصياد

الحياة حلوة

تقول الوردة

و ترتمي ميتة في يد الولد الوسيم

الحياة حلوة

يقول

و يطلق على رأسه النار

الحياة قبيحة، كريهة، فاسدة، شريرة

يقول الطاغية

و يقضم قطعة من البسكويت

بلادنا الجميلة

ثمرة ثمرة

تقطفين أيامي

يا بلادي الجميلة

فأستمع:

لا أحد يغني

سوى الساطور

لا أحد

فتحت الباب

لم يدخله أحد

لا ضيف، لا امرأة، لا شرطي

فتحت النوافذ

لم يدخلها أحد

لا هواء، لا فراشة، لا أغنية تائهة

فتحت قلبي

لم يدخله أحد

لا نهر، لا رصاصة، لا طير

و ها أنذا الآن

مغلقًا و وحيدًا

أنادي

تعالي

فصول

الصيف سينتهي

الربيع انتهى

الخريف سيأتي

و الشتاء ما زال بعيدًا

في أي فصل نحن؟

عتمة

اشعل سيجارة للصديق

اشعل القلب البارد

اشعل الضوء ليمرّ الثوار

اشعل النار في التماثيل

اشعل شمعة من أجل المسيح

لا تطفئ حياتك!

الشهيد

إنهم ينتحبون

فوق الجسد البارد

حيث تتناثر الأزهار

زهرة على العنق

زهرة على البطن

زهرة على الكتف

زهرة بين الشفتين

إنهم ينتحبون

فوق الجسد البارد

حيث:

السكين في القلب

شارع

هذه مدينة مليئة بالشوارع

شوارع مفتوحة

تؤدي إلى جميع الجهات

لكن، اسمعني، أرجوك

حياتنا مغلقة

و الشارع الوحيد العادل

ذلك الذي يأخذني إلى قلبك

الجدار


مثلما يمكن أن تصنع
من غصن الشجرة الأخضر هراوة
 و من زجاجة الكازوز الفارغة
أداة جارحة
مثلما يمكن أن تصنع
من الغرفة الأليفة زنزانة
و من الشارع الواسع مسرحًا للقتل
مثلما يمكن أن تكتب رسالة تهديد
بالقلم نفسه
الذي كتبت به رسائل الحب
و تستطيع أن ترسم مشنقة
بالريشة نفسها
التي رسمت بها طفلاً يضحك
و طائرًا يطير
و راعيًا يغني
هكذا تمامًا..
يتحوّل بعض البشر إلى جدران

قاسية و كتيمة كما ينبغي
جدران تستطيع أن تدق
مسمارًا فيها
أن تضع عليها الصحف
و الأواني
و الكراسي الخشبيّة
أن تفتّتها بالفؤوس و المطارق
لكن من المتعذر تمامًا
أن تقول للجدار: يا صديقي
فيرد عليك: يا أخي

نتفق أو لا نتفق

نحن متفقان:

الحياة جميلة

و الناس رائعون

و الطريق لم تنته

و لكن انظر إلي قليلاً

فإنني أتألم

كوحش جريح في الفلاة

نحن متفقان إذًا

الربيع سيأتي طبعًا

و الشمس ستشرق كل صباح

و في الصيف سيجني الفلاحون القمح

الربيع يكفينا

و الشمس ايضًا

و القمح إذا أردت

و لكن قل لي:

لماذا يملأ الدم

غرفتي و سريري و مكتبتي؟

و لماذا أحلم دائمًا

بطفل متطاير الأشلاء

و دمية محطّمة

و رصاصة تئز؟

غدًا

عشرة آلاف غد

خرجتْ من حياتي البارحة

و ما زلت أقول غدًا..

غدًا تأتي الغيمة

و تبلل القلب المعطوب

غدًا يمد النهر أصابعه

و يربت على كتف عطشي

الغد يتحول إلى “اليوم”

اليوم يصير “البارحة”

و أنا أنتظر بلهفة

الغد الجديد

قصائد عن الموتى

“لا نحدث جلبة

في غرفة الموتى

نرفع الشمعة

و نراهم يمضون

أرفع صوتي قليلاً

على عتبة الباب

و أقول بضع كلمات

لأضيء دربهم”

فيليب جاكونيت

كم هي لذيذة

الموتى الذين ماتوا

في الحروب و الأوبئة

في السجون و الطرقات

الموتى الذين ماتوا

بالخنجر و الرصاص و الديناميت

بالفأس و حبل المشنقة

الموتى الجميلون

ذوو الأسنان البالية

و الوجوه الناتئة

تذكروا و هم في قبورهم

ضوءَ القمر و خضرة المراعي

تذكروا أنهم لم يعيشوا كما ينبغي

لم ينتبهوا إلى الأصوات و الألوان

تذكروا:

كم قبلة أضاعوا

كم ضوءًا أغمضوا عيونهم كيلا يروه

كم زهرة لم يزرعوا

كم كلمة طيبة لم يقولوها

الموتى عرفوا

ربما للمرة الأخيرة

كم هي لذيذة حياة الأحياء

الخنجر

الرجل مات

الخنجر في القلب

و الابتسامة في الشفتين

الرجل مات

الرجل يتنزه في قبره

ينظر إلى الأعلى

ينظر إلى الأسفل

ينظر حوله

لا شيء سوى التراب

لا شيء سوى القبضة اللامعة

للخنجر في صدره

يبتسم الرجل الميت

و يربت على قبضة الخنجر

الخنجر صديقه الوحيد

الخنجر

ذكرى عزيزة من الذين في الأعلى

فنان

لم يأسف على شيء

حينما أخذوه إلى المقبرة

لم يأسف سوى على المطرقة و الأزميل

على الألوان و الفرش

على اللوحات و التماثيل

و ها هو الآن في القبر

هيكلاً عظميًا

ها هو يقوم جامعًا عظامه

سيصنع من سلاميات الأصابع

خواتم و أقراطًا

من الجمجمة دورقًا للنبيذ

من العود الفقري صحونًا و أكوابًا

و ربما يصلح عظم الكتف

لصنع طائر

ثوب أزرق

قبل أن ترتدي ثوبها الأزرق

قبل أن تزور خالتها

ماتت الفتاة الجميلة

الثوب ما زال في الخزانة

و الخالة في قريتها

و الفتاة في القبر.

فأي شيء تحلم به الآن

لقد نظفت قبرها تمامًا

لقد جمّلته كما ينبغي

فأي شيء تحلم به الآن

بعد أن سرّحت شَعرها بأصابعها

و قصّت أظافرها بأسنانها

إنها تحلم.. إنها تحلم

بثوبها الأزرق

و زيارة خالتها

الدراجة

الولد فوق الدراجة

سعيدًا، ضاحكًا، منتشيًا

يدور في فناء قبره

(حينما كان حيًّا

سقط عن الدراجة و مات)

الولد في فناء قبره

يدور بدراجة من عظام

سعيدًا، ضاحكًا، منتشيًا

كتابة

بريشة من العظام

و حبر من الطمي

يكتب على جدران قبره

قصائد و روايات و قصصًا

قصائد عن الحب

و روايات عن القرى و المدن

و قصصًا عن الأرانب و العجول

إنه يكتب منذ أن مات

يكتب رغم أن أحدًا لا يقرأ ما يكتبه

يكتب دونما توقف

يكتب برغبة، باندفاع

لا يفعل شيئًا سوى الكتابة

يكتبُ

ربما

لأن الكتابة فعل حياة

العاشق

يحفر العاشق بأظافره

تراب القبر

يحفر في بقايا التاريخ

يحفر منذ ألف عام

يحفر ليصل

يحفر دونما ألم

(الموتى لا يتألمون)

و العاشق الميت

يريد الوصول لمن يحب

و سيظل يحفر بالأظافر و الأسنان

تراب القبر

سيظل يحفر إلى الأبد

حب

“لست أنا من يغني

بل الأزهار التي رأيتها

لست أنا من يبكي

إنه حبي الضائع”

جاك بريفير

يدك

خمس قارات مغلقة

تنتظر أصابع يدك الخمسة

خمس قارات مفتوحة تنتظرني

عندما أضم أصابع يدك الخمسة

يدك في الشتاء

تراب مبلل بالمطر

و يدك في الصيف

سنبلة في حقل من الرماد

لا تفتحي يدك.. لا تفتحي يدك

فكل أغاني العالم ستنطلق منها

لا تغلقي يدك… لا تغلقي يدك

فكل أغاني العالم ستلتجئ إليها

يدك الطرية الدافئة

كقلبي

كيف أتركها تضيع كطائر

في غابة مليئة بالصيادين

حتى الذئاب

عندما تكونين حزينة

يحزن معك النهر و الزورق

أشجار الصفصاف و الدوري الرمادي

الجبل و مصباح الغرفة

الستائر و ضوء الشمس

القلب في الصدر

و السمك في الأنهار

و حتى ذئاب البراري المتوحشة

حتى الذئاب

تدفن رؤوسها في الرمال و تبكي

هكذا

مثل ساقية ماء تبحث عن مجرى

مثل نبع ارتفعت عنه الصخور

مثل قدم تتقدم في طريق لا نهاية له

مثل ناي وجد فمًا

و شفتين أبصرتا شفتين

هكذا أفتح عيني في الصباح

النافذة المفتوحة.. مفتوحة

و الهواء يعبث ببقايا أوراق

و ما زال في العمر بقية

للكآبة و الضحك و صعود المرتفعات

و هكذا..

أضيف صباحًا جديدًا في حصّالة حياتي

و أمضي

المعجزة

أول كلمة في الصباح

هي لك

و آخر كلمة في المساء

هي لك أيضًا

و ما بين صعود الشمس من خلف الجبل

و سقوطها في البحر الأزرق

ما بين الخيط الأبيض و الأسود

كتب و صحف و أقلام

سجائر و أوقات مبدّدة

أصدقاء و آلام

و ما بين الصباح و المساء

تطيرين كفراشة

و تتبددين كعطر

و أنا أغطّ إصبعي في الماء

و أكتب على الورقة كلامًا أبيض

و أنتظر المعجزة

تساؤلات

ماذا سيحدث لي غدًا

هل سأستيقظ كنسر

بجناحين هائلين و منقار أزرق

لأطير إلى جبل أو وادٍ أو برية؟

هل سأغني بفرح و جنون؟

هل سأبكي و أعض الوسادة بأسناني؟

مَن سأرى في الصباح

في الطريق اللولبي إلى عملي

رجلاً أم امرأة

طاغية أم ملاكًا؟

كيف سأبدو أمامك

حزينًا جدًا أم سعيدًا للغاية

هل ستشبّهينني بأرنب أبيض

أم بغراب مريض؟

و هل ستكون يدك حارة أم باردة

و عيناك مطفأتين أم مشتعلتين؟

ما الأخبار التي سأقرؤها؟

كم سيجارة سأدخّن؟

كم طعنة سأتلقى؟

كم قبلة سأقطف من شجرة الحياة؟

غدًا، ماذا سيحدث لي؟

اقذف قطعة نقود في الهواء و أضحك.

إذا كان نسر سأحبك

و إذا كانت كتابة سأحبك أيضًا

الحب

الحب ليس غرفة للإيجار

نتركها ببساطة و نرحل

مخلفين الصور القديمة و الغبار

و أعقاب السجائر

الحب ليس أغنية جميلة

نتعلمها بغتة، و ننساها بغتة

كما ننسى، عندما نكبر،

الطفولة و اللعب و حليب الأمهات

الحب ليس حبة أسبرين

نتناولها عندما نشعر بالصداع

و ليس نكتة خفيفة

نتداولها في أوقات الضجر

الحب ليس وردة للزينة

و لا كأسًا مكسورة لسلّة المهملات

الحب..

شهادة ولادة دائمة

نحملها برأس مرفوع

لنخترق شارع المذبحة

أرجوك

اكتب لي شيئًا أرجوك

دعني أفهمك و تفهمني

اكتب لي شيئًا

اكتب لي بقلم الرصاص على ورقة

بإصبعك على راحة يدي

بعود كبريت على طلاء جدار

اكتب لي أرجوك

قل لي ما النفع أرجوك

من حلم محاط بالسواد

من فم بلا شفاه

من سماء بلا زرقة

من غابة بلا أشجار

و من حياة بلا حرية

قل لي شيئًا أرجوك

اكتبْ أو ارسم أو غنِّ

غنِّ عن الوطن الذي يتألم

دائمًا I

أنا الهواء في رئتيك

و الأزرار في قميصك

أينما كنتِ ستجدينني

براحتيَّ الدافئتين

و قامتي القصيرة

أنتظرك على الرصيف

أنتظرك في العمل

أنتظرك فوق السرير

واثقًا بأنك ستأتين

لأنني معك دائمًا

أخلط أيامك بالقُبل

و دمك بالأزهار

أنظر إليكِ من سمائي كإله

و أرفع يدي طالبًا مغفرتك

أنا صرخة الألم في حنجرتك

و الأغنية الجميلة التي ترددين

أنظر إليك من البعيد

و أخاف أن ألمسك

و حينما أمسك يدك

لا أستطيع أن أبتعد عنكِ

حيوانك المدلل أنا

و هوايتك المفضلة

بلادك النائية

و مستقبلك القريب

بقدميّ الحافيتين و قلبي المرتجف

أركض معك في الدروب الوعرة

أنا الغبار من حولك

و العرق الذي يسيل من مسام جسدك

أينما نظرتِ سترينني

على الطاولة و الكرسي و المدفأة

في المكتبة و الحمّام و الباص

في الحقول و المصانع و مظاهرات الطلبة

أنمو كالأعشاب في شرفتك المشمسة

و أتدلى من سقف غرفتك كالمصباح

بأصابعي العشرة أحتوي وجهك

و بأصابعي العشرة أدفع المتاعب عنكِ

بأصابعي العشرة أعدّ لك القهوة

و بأصابعي العشرة أسندك

إذ توشكين على السقوط

أنا الوردة في شَعرك الأسود

و الدبوس في عروة سترتك

عندما تنامين

أندس بين أحلامك و لا أنام

أضحك و أبكي و أتألم

و أحارب أعداءك القساة

و في الصباح

أتدحرج مع الماء على وجهك

و أجفّفه بشفتي

أنا التفاحة التي قطفت

و الأرض التي طردتِ إليها

أنا اللوحة التي تزينين بها

جدار حياتك الأسود

و الدم الذي يسيل منكِ

حينما يطلقون عليك الرصاص

يناديك النهار فألتفت

تبردين فيرتعش جسدي

بعيني تشاهدين الطيور

و بصوتك أطالب بالحرية

أما عندما تموتين

من الجوع أو الحب

فسأحاول ألاّ أموت معك

ذلك أن الموتى

بحاجة لمن يذكرهم

و لن يفعل ذلك أحد سواي

دائمًا II

أنا وحش

من العصور القديمة

سأدافع عنك

بالمخالب و الأنياب

أنا حيوان جريح في غابة

تعالي و المسي جراحي بأناملك

أنا زهرة متعبة

في غابة بعيدة

سأتقدم بهدوء و أنام على صدرك

أنا رجل خاطئ

ها أنذا أرفع يدي

طالبًا مغفرتك

أنا طفل لم أحفظ دروسي

تعالي علميني

كيف أجمع برتقالة و سبع تفاحات

هناك حقيقة واحدة

بدأت أدركها

هي أن حبي

لا تسعه هذه الأرض الصغيرة

لو كان حبي طيورًا

هل تسعها السماء؟

لو كان حبي سمكًا

هل يسعه البحر؟

لو كان حبي أشجارًا

هل تسعها براري الدنيا؟

أعرف أن الحب

بسيط كالزنابق

سهل كمطر الربيع

واضح كسماء زرقاء

لكني أتساءل:

لماذا يخاف الكثيرون

من الزنابق

و مطر الربيع

و السماء الزرقاء

تعالي لنلغم

صقيع العالم

بديناميت القبلات

مشاهد يومية

1- المكتب

كلّ صباح

حينما أفتح باب غرفتك بهدوء كاذب

محاولاً إخفاء ارتجاف أصابعي و شراييني

كلّ صباح

حينما أراكِ تعبثين بالبطاقات البيضاء

بالصحف و المجلات

بالزمن و القهوة

كلّ صباح

أتمنى

حينما أدخل غرفتك بهدوء كاذب

أن أكون قلمًا أو ممحاة

صحيفة أو فنجان قهوة

بين أصابعك التي تعبث بالأشياء

كما يعبث عازف مبتدئ بمفاتيح البيانو.

2- الطريق

في الطريق حينما أكون معك

في الخريف الذي طال

حيث تشتعل الشمس و تنطفئ

بطريقة غريبة

بطريقة أخّاذة

في الطريق، في الطريق

حيث تسقط ورقة شجر صفراء

فوق شَعرك الأسود المشتعل

أقول لك: اقتربي

لقد وقع طائر أصفر فوق رأسك

و ها هو ينقر حبوب العدس

طائر أصفر صغير يغني

فوق أغصان شَعرك العزيز

شَعرك الذي كقطيع من الماعز

يرعى في برية القلب

3- البيت

حذاؤك في الزاوية

ثوبك فوق الكرسي

و فوق المنضدة دبابيس شَعرك

خاتمك الذهبي

و حقيبتك السوداء

و أنت معي

عارية و خائفة

– ممّ تخافين..؟

من قنبلة تسقط فوق زهرة!

من زهرة تحت عجلات قطار!

عارية و ترتجفين

– ممّ ترتجفين؟

من بركان يتفجر!

من رغبة تئن!

عارية و تلتصقين بي

سأترك النافذة مفتوحة

انظري.. انظري

ها هي السماء الزرقاء

و ها هي قطة بيضاء و رمادية

تتنزه فوق حافة الجدار المقابل للنافذة

و ها نحن

نقتسم رغيف الحب

نأكل من صحن واحد

بملعقة واحدة

و كل ما نملكه و ما لا نملكه

سنقتسمه أيضًا

تمامًا

كرفيقين في رحلة طويلة.

اثنان

كانا اثنين

يمشيان معًا

في الشوارع المهجورة

منه تفوح رائحة التبغ

و منها تتساقط أوراق الليمون

و عند المنعطف

كنجمتين

سقطا

كانا اثنين

أحدهما يغني

و الآخر يحب الإصغاء

فجأة توقف عن هذا

و توقفت عن ذاك

عندما انكسر المزمار

كانا اثنين

أهدته قلمًا للكتابة

و أهداها حذاء خفيفًا للنزهات

بالقلم كتب لها: “وداعًا”

و بالحذاء الخفيف جاءت لتودعه

اعتياد

اعددت لكِ فنجان القهوة

فنجان قهوة ساخنة

القهوة بردت

و ما جئتِ

وضعت وردة في كأس ماء

وردة حمراء حمراء

الوردة ذبلت

و ما أتيتِ

كل يوم أفتح النافذة

فأرى الأوراق تتساقط

و المطر ينهمر

و الطيور تئن

و لا أراك

لقد اعتدتُ

أن أعدّ القهوة كل صباح لإثنين

أن أضع وردة حمراء في كأس ماء

أن أفتح النوافذ للريح و المطر و الشمس

لقد اعتدت

أن أنتظرك أيتها الثورة

Leave a comment